تكاد تجمع الدراسات التي تناولت البورتريه الفوتوغرافي بصيغة عامة وضمنه البورتريه السياسي، على أنه صورة موجزة ومكثفة تعرفنا بالموضوع المُصوَّر ومميزاته. بمعنى آخر، كل ما من شأنه أن يرسم لنا خصوصياته الفيزيولوجية )كقسمات وجهه وطبيعة نظراته وملامح خلقته( وسيكولوجيته (حالاته النفسية ووضعياته المزاجية( وأسلوبه في الحياة )كطريقة لباسه وتسريحة شعره وحركات جسده) ثم انتماءه الاجتماعي )كماركات ملابسه وتصميم أزياءه ونوعية إكسسوارته) . تدفعنا هذه التحديدات مجتمعة إلى التساؤل عن أشكال الحضور أو التمظهرات التي تتخذها هذه العناصر والمكونات، أو بعض منها، في البورتريهات التي تنقل لنا صورة الزعيم السياسي المغربي؟.
وللإجابة عن هذه الأسئلة، سنحاول تقديم بعض الملاحظات حول التمثيلات والمظاهر الذي يحضر بها بورتريه الزعيم السياسي ورمزيته، من خلال مجموع الاقتراحات والأمثلة والأشكال والنماذج والمحتويات الفوتوغرافية التي يقترحها علينا كتاب «هكذا تكلم محمد بنسعيد…» .(1) إن اختيارنا لهذا المتن يحكمه سببان: الأول، المكانة السياسية والقيمة الرمزية لشخصية بنسعيد آيت إيدر في المشهد السياسي المغربي. أما السبب الثاني، فهو العدد الهام والمتنوع للصور الفوتوغرافية المدرجة في هذا الكتاب.
وانطلاقا من هذين الاعتبارين، سنتساءل هل نجحت «الاختيارات التقنية» و »المقاربات البصرية » و »المرجعيات الفكرية » و »التصاميم الفنية » المتبعة في انتقاء هاته البورتريهات من تقديم وتقريب صورة بصرية مُكثفة وموثوقة ومُشْبَعَة ومؤتمنة للقارئ عن شخصية آيت إيدر، أم أنها أخفقت في ذلك؟ (2)
يمكن توزيع فوتوغرافيات الكتاب إجرائيا إلى ستة محاور أو سجلات أو أجناس من البورتريهات، فهي تارة شخصية، وتارة أخرى عائلية ومرة جماعية وزَفَّة رسمية، وحينا إدارية وحينا آخر بورتريهات ملتقطة باستديوهات. وبالرغم من أن هذه الفوتوغرافيات تكشف لنا، وبمسافات متنوعة، عن علاقات آيت إيدر العائلية )الصور التي تمثله مع أفراد عائلته الصغيرة والكبيرة ( والاجتماعية )الصور الحميمية مع أصدقائه) والسياسية )الصور التي تمثله بجانب ملوك المغرب ومع رؤساء الدول العربية وفي صف الزعماء السياسيين المغاربة منهم والأجانب). وبالرغم من أنها تُعَرِّف وبمستويات متفاوتة، بحياته الملآى بالتجارب والغنية بالأحداث والمشوقة بالمغامرات والطريفة بالمستملحات، فإن قراءتنا ستقتصر فقط على جنس البورتريه الشخصي وحده. لأننا نرى فيه النموذج الأقرب والأوفى إلى تشخيص ملامحه والتعبير عن خصوصياته ومزاجه.
وسيميل اختيارنا أساسا إلى تقديم قراءة لبورتريه غلاف الكتاب مع مقارنته من حين لآخر ببورتريه الصفحة خمسة عشر، ثم بورتريه الصفحة الثانية والأربعون. وذلك لأمرين: الأول، أنهما يمثلان جنس البورتريه الشخصي. والثاني، لأن هذه البورتريهات الثلاثة بالرغم من انتمائها إلى ثلاث مراحل متباعدة من حياة شخصية آيت إيدر، فهي تتكامل وتتفاعل وتتحاور فيما بينها. بل أكثر من ذلك، تجمعها بعض الخصائص المشتركة يمكن تلخيصها في فكرة تقديم صورة موجزة عن مسار حياته وتجربته السياسية بدءا من فترة أحلام الشباب مرورا بطور العمل السياسي الميداني ومخاطره وصولا إلى مرحلة النضج والزعامة. فإذا أخذنا مجموع هذه البورتريهات وحاولنا تركيبها كرونولوجيا، سنجد أنها تحكي بلغتها وأسلوبها ومضامينها الخاصة وقائع وأحداث وحالات تجسد مستويات الوعي السياسي عند آيت إيدر والتجارب والأخطار التي صادفها خلال مساره وأيضا الحدود التي يصممها للالتزام السياسي.
إن غلاف الكتاب، كما هو متواضع عليه، يشكل بمكونيه اللفظي والأيقوني عتبة أساسة في التواصل مع قارئه. بمعنى آخر، إنه الباب الذي يَعْبُر من خلاله القارئ إلى محتويات الكتاب ومضامين صفحاته. بل يمكن القول إنه الواجهة الأولى التي يطل من خلالها الكتاب على قارئه، فتقع إما الألفة أو النفور. فالهواجس التي تحرك مصمميه كانت دائما ولاتزال يغلب عليها الطابع الإبلاغي والتواصلي. ذلك أن الرهان في هذا المقام هو تقديم كتاب ناجح بصريا وفنيا، وأيضا، وهذا هو الرهان الأكبر، استمالةُ القارئ واستدراجهُ للاقتناع بأهمية الكتاب وقيمته ومن ثم اقتناؤُه. وبالرغم من أن الوضع في حالتنا هاته مختلف جدا، لأن شخصية آيت إيدر لا تحتاج إلى كل هذه الإواليات والاستراتيجيات والاجتهادات، ذلك أن مسار الرجل ومواقفه ونضالاته أبلغ وأكبر من استدعاء كل هذه الحيثيات والسياقات والواقعات. غير أن هذا لا يمنع من الاحتفاء بهذا العمل احتفاء بصريا باذخا يليق بحجم المسار السياسي لصاحبه وقيمته الرمزية في هذا الوطن. ولعل ما يتضمنه ويحتويه البورتريه «المُزَيِّن» لغلاف الكتاب نفسه من معاني ودلالات شاهدة على هذا القول. إذ إضافة على أنه يحفظ لنا ذكرى أساسة في تاريخ الاحتجاجات بالمغرب المعاصر (3) ، فهو يوثق للهموم السياسية لآيت إيدر ولانشغالاته الاجتماعية والتزاماته بأمور الوطن وقضاياه. لكن بالرغم من الحمولة التاريخية التي تتمتع بها هذه الصورة، وبالرغم من اللغة التعبيرية التي يحدثنا بها هذا البورتريه الفوتوغرافي عن موضوعه المصوَّر، سواء على مستوى التأطير أو زاوية النظر أو التركيب ما بين عناصر الصورة عموما. يمكن القول إن التصميم الفني لهذا البورتريه وإخراجه النهائي، والشيء نفسه بالنسبة للغلاف ككل، يكبح معانيه ودلالاته. بل أكثر من ذلك، يمكن القول إن المقاربة المتبعة في تصميم الغلاف تنتمي لسجل بصري مغاير عن الأشكال والمحتويات المعتمدة في التصاميم المعاصرة الموسومة بالمشاغبة والالتباس والانفتاح. إن مصممه مصمم هاوي تنقصه الخبرة والذوق الفني والجرأة على ركوب صهوة أي مغامرة بصرية تقلص من الحيز الذي يشغله المكتوب في صفحة الغلاف والسلطة التي منحت له، والنتيجة هي أنه قدم للقارئ عملا محتشما وخجولا. أليس عنوان الكتاب قولا صريحا بأن منجز محمد بنسعيد هنا هو الكلام «هكذا تكلم محمد بنسعيد…»؟ بمعنى آخر، إنه لا ينشغل بتقديم لقارئه مادة توثيقية تفكر بالصور وتعبر من خلالها على ما شاهدته عين آيت إيدر وواكبته من أحداث وحروب واغتيالات. وإذا افترضنا جدلا أن الأمر مطروح من هذا المنظور، فلماذا تلطيخ صفحات الكتاب بكل هذا العدد الهام من الفوتوغرافيات / البورتريهات؟
قد يُؤَجل الجواب عن هذه الأسئلة وعن كل ما يتفرع عنها من قضايا وأسئلة فرعية إلى وقت لاحق، وقد لا نجد لها جوابا البتة. لكن في مقابل ذلك، سنحاول التركيز على فهم ما تنسجه خيوط بورتريه غلاف الكتاب من قصديات ومعاني وذلك من خلال استنطاق لغته وأسلوبه ثم استعاراته، ومن خلال إثارة بعض الأسئلة الخاصة بالعلاقات والصلات الممكنة التي تربط هذا البورتريه بملفوظ العنوان ثم ببورتريهات الصفحتين المذكورتين أعلاه (4) ، ومن حين لآخر بباقي العناصر المؤثثة لمساحة الغلاف كالانتشار المبالغ فيه لهذا النوع من اللون الأزرق وقصديات اختياره دون لون آخر. إن ما يمز هذا البورتريه، مقارنة مع البورتريهات الشخصية الأخرى، هو التقاط الموضوع المصوّر في محيط خارجي ومفتوح وفي واضحة النهار. أي ما يطلق عليه في تعريفات القواميس المتخصصة في الصورة وضمنها الفوتوغرافيا ببورتريه في محيطهPortrait dans son environnement . نتساءل، هل هذا من باب المصادفة فقط، أم يتعلق الأمر حقا بمحاولة تمثيل آيت إيدر في محيطه الطبيعي، أي الفضاء العمومي وتحديدا الشارع المغربي، حيث يوجد زاده من الهواء والماء والتراب ؟ إن ما يميز هذا البورتريه، ليس هو إبراز ملامح الوجه وخطوطه من جهة، ولا تبيان الجانب اللباسي من جهة ثانية، كما تطلعنا على ذلك مجموع البورتريهات الشخصية المثبتة على صفحات الكتاب، وإنما المراهنة على تخليد لحظة التَفَّ فيها المناضلون وتَجَمَّع فيها المتعاطفون وتجمهر فيها الحشود حول قائدهم التاريخي وزعيمهم السياسي. وكل ذلك رغبة في الإنصات لخطابه المدوي والاستمتاع بكلامه الجميل والمحبب الذي لا تضجر من استماعه الجموع. والذي زاد من تضخيم حجمه وتقوية صداه الميكروفون، ميكروفون مكبر الصوت، الذي تحمله يده اليمنى.
هكذا، يعترينا إحساس بأن البورتريه الذي ثم توظيفه كمادة بصرية للتوضيح، لم يتم التفكير فيه إلا في مرحلة متأخرة من فترات تصميم الغلاف. وذلك بالرغم من كثافة عناصره وزخمها، سواء على مستوى الهيأة أو الحركات أو الأفعال التي تجسدها وضعة آيت إيدر في هذا البورتريه. وقد يكون ذلك بعد اختيار عنوان الكتاب والموافقة أو التوافق عليه. ذلك أن الإحساس الذي يتركه فينا تصميم هذا الغلاف ومختلف أشكاله الگرافيكية والبصرية، هو امتداح وتعضيد فكرة «التَكَلُّم» والتي تحضر هنا بِجَرَسٍ ضخم ونبر عال. ومما قد يفسر كذلك احتمال أن التفكير في المستوى اللفظي كان سابقا على المستوى الأيقوني، سواء بوعي أو بلاوعي، هو الدور الذي يقوم به هذا النص المكتوب، أي العنوان، على مستوى التحكم في توليد المعنى. فالصيغة الذي يتقدم به هذا الأخير والآليات التي يشتغل بها، تحدد، إن لم نقل تفرض ضمنيا، زاوية القراءة كما ترسم حدود إنتاج معاني هذه الأخيرة. وكل ذلك كي لا يُفْسَح المجال للتأويلات المتعددة، وحتى لا تُتْرَك الفرصة للقراءات المنزاحة عن قصدية الملفوظ. إن وظيفته هي محاولة كبح أي تأويل قد يستنتج أو يفهم بقصدية أو بدونها لحظة استقبال الغلاف. بل أكثر من ذلك، إنه يقوم بتوجيه القارئ نحو الكيفية والطريقة التي ينبغي بها قراءة المكونات التي تؤثثه وخاصة البورتريه الذي وظف للإيضاح ومن ثم قراءة محتوى الكتاب. بمعنى آخر، إنه يؤدي دورا أو بالأحق يقوم بوظيفة الترسيخ l’ancrage. بارث، رولان. (1982): 31-33.
وإذا حاولنا استنطاق الجزء الأول الذي يتكون منه هذا العنوان، ووقفنا عند معجمه واشتقاقاته وتراكيبه ومعانيه. فسنجد في القاموس العربي أن حرف «هكذا»، الذي يجمع ما بين التنبيه (الهاء) والتشبيه) الكاف) والإشارة )ذا) والذي يقابل في تفسيره عبارة «على هذا المنوال» أو «على هذا النحو»، هو حرف يُستعمل في اللغة للتعبير عن صيغة المبالغة، إضافة إلى وظيفته النحوية واسهامه في تهذيب أسلوب الجملة وتركيبها. أما كلمة «تَكَلَمَّ» فإنها تفيد ما معناه، نَطَقَ معنى وتحدَّث كلاما أي قولا. كما يُقْصَدُ بها الفصاحة ثم النصيحة كما يخبرنا بذلك النص الديني من خلال قصة موسى الذي كَلَّمَهُ الله تكليما. الفيروزأبادي. (1983): 172. والجمع بين هذين العنصرين، يحيلنا على معنى جديد يفيد الإكثار في كل ما من شأنه الرفع من قيمة الشيء أو الإنسان أو غيرهما. وفي حالتنا هذه، يكون استعمالهما من أجل التأكيد الضمني على قيمة الكتاب وصاحبه. وهذا ليس بغريب على رجل من طينة آيت إيدر؛ ذلك أن كل ما سيحدثنا عنه في هذا الكتاب، لن يكون سوى كلام خير وبديهي وصاعِق حسب المصمم. والخلاصة إن لأثر هذا المكتوب دورا بليغا وحاسما في ذهن الذات المدركة لهذا الغلاف، وخاصة في تلقي هذه الصورة الفوتوغرافية ومحاولة فهم مضامينها. فهو يقوم بدور التوسط ما بين ما نقلته عين الفوتوغرافي والنظرة التي ستتلقى بها عين المشاهد هذا المدرك البصري. فـ « لا يمكن للصورة الفوتوغرافية )كل الصور في واقع الأمر) في تصور بارث دائما، أن تحضر في العين إلا من خلال تقطيع مفهومي سابق، أي ضمن توليفة لغوية هي التي تكشف عن مضمون ما يتم تمثيله. بل لا يمكن إدراك الصورة إلا ضمن لبوس لغوي، فهو الذي يُجلي مضمونها ويُسَربها إلى الذهن في شكل دلالات.»وإذا لم يحصل هذا التدليل بالتزامن، فإن الأمر سيكون دالا على خلل في الإدراك أو على تساؤل أو قلق أو صدمة يُحدثها الموضوع المدرَك عند المتلقي. فلن يصبح ما يأتي إلى الذهن عبر العين قابلا للتعقل إلا إذا تسرب إلى اللغة واستوطن عوالمها، وخارجها سيظل مجرد أحاسيس غامضة ») بنگراد، سعيد .((2019): 70. لكن إذا أمعنا النظر قليلا في هيأة هذا البورتريه وتوقفنا برهة على عناصره الأيقونية والتشكيلية، ألا يجيب، في جانب كبير من مستوياته، على مواصفات البورتريه السياسي المطلوبة في مثل هذه المناسبات؟ ولنتخيل أن هذا البورتريه منحت له بدوره فرصة التمتع بالمساحة نفسها التي احتكرها النص المكتوب، هل سيكون وقعه آنذاك على المشاهد بالتأثير نفسه أم سيخلق حتما أثرا مغايرا؟
إن قليلا من التأمل في التأطير الذي استعمل في تشخيص بورتريه آيت إيدر، يساعدنا كثيرا على تمثل ملامحه والتعرف على انفعالاته وتبيان مميزاته وخاصة إدراك كاريزميته. بل أكثر من ذلك، تقربنا اللقطة القريبة Plan rapproché الموظفة هنا منه أكثر. وذلك من خلال تمثيله منشغلا في إلقاء خطبة، وبصوت مبحوح، على الجماهير الغفيرة الممثلة من مختلف الأعمار والتي حجت إلى مكان التجمع وربما امتد ذلك أيضا إلى المارة. كذلك تخبرنا هذه اللقطة الأفقية بأن اللقاء قد تم خارج أسوار مقر الحزب، وذلك من خلال اليافطة الموجودة في المستوى الخلفي للصورة والمتدلية على حائط بناية تحمل اسم «الحزب الاشتراكي الموحد». كما تنقل لنا من جانب آخر، الأجواء التي طبعت هذا العرس السياسي وعلى حرارة الحدث وطقسية الاحتفاء، والتي بلغت في مرحلة من فصولها درجة سَيحْمل فيها الزعيم على أكتاف الجماهير تعبيرا عن الوفاء والعهد والإخلاص والاعتراف لما قدمه من تضحيات جليلة وأيضا دعما لصموده في مواقفه السياسية وتباثه في اختياراته الإيديولوجية، وهي كذلك صورة تذكرنا بالاستقبالات التي تخصص عادة للأبطال الذين حققوا الانتصارات وبرعوا في المنجزات. إن مختلف العناصر الممثلة داخل الحقل المصوَّر تعلي من حضور الزعيم البطل كما تشهد على ذلك حجم قاعدته الجماهيرية ذات الحضور المتنوع، وكما يشهد على ذلك أيضا حجم امتداداته وانغراسه في المجتمع. فحتى تضبيب النص المكتوب في المستوى الثاني من الصورة، لم تكن الغاية منه سوى الإسهام في تسليط الضوء أكثر على الموضوع الرئيس، وخاصة على عينيه التي تمعن بنظراتها إلى خارج الحقل وكأنها تتطلع إلى عهد جديد قادم وبدماء جديدة وربما هي استدعاء لاستشراف مستقبل مضيئ أو هو فقط اختيار، بوعي أو لا وعي، أقدم عليه المصمم حتى ينسجم مع اتجاه وحركة تصفح الكتاب. ولمكر المصادفة جاء هذا الأفق الذي تعبر عنه عيناه من خلال وضعتها واتجاه نظرتها في الدرجة والمكانة التي استوت عليه يافطة الحزب في خلفية الصورة؛ لدرجة أن هذا التراكب يعطينا الانطباع وكأن تلك الهموم والتطلعات والمصير التي يحدثنا عنها آيت إيدر عنوانها هو شعار تلك اليافطة؟ لكن الشيء الوحيد المؤكد من هذا الحضور اللفظي هو وفاء مُلْتَقِط الصورة لتقاليد الفوتوغرافيا الصحافية، وذلك من خلال العمل فوتوغرافيا على تعيين وتحديد مكان اللقطة. ومما يساعد أيضا على إبراز الموضوع واحتلاله هذه المكانة في الصورة، هو تطبيق تقنية قاعدة الأثلاث الثلاثة أثناء التقاط هذا البورتريه والتي تمنح عين الرائي متعة وراحة ويسرا أثناء تلقيه للموضوعات الممثلة في الصورة وكذا طريقة توزيع العناصر على مساحتها. ويبقى أهم عامل يقوم بشد العين إلى موضوع البورتريه سواء على مستوى الأشكال أو المحتويات، هو طبيعة التأطير الذي انتقاه الفوتوغرافي وأبدع فيه. والذي يخلق نوعا من الحميمية والألفة بين شخصية آيت إيدر والمشاهد، بل يستدرج هذا الأخير إلى أن ينصت أكثر إلى حركات الموضوع المُصَوَّر وأن يهتم بنظراته وأن يركز على أفعاله وأن يدقق في تعبيرات ملامح وجهه وجسده ككل، وأيضا الانشغال بمؤثثات محيطه بكل حذافيره وجزئياته. أي إبداء رغبة وشوق أزيد في التعرف عن الزعيم وعن مقاصده وعن كل الأشياء التي تخص تفاصيل شخصيته وربما حياته. لكن بالرغم من الفسح الفنية والتأويلات الدلالية الممكنة التي يوفرها هذا البورتريه الفوتوغرافي وأيضا بالرغم من الأحياز البصرية التي يغدق بها، فإن العين تشعر وهي تتلقى حالة هذا الغلاف وشكله بالاحتباس والاختناق. أكثر من ذلك، إن اللون والخطوط وبند الخط وشكله المستعمل والأسلوب التناظري Symétrique الذي سلكه المصمم في بناء عناصر الغلاف وإخراج مساحته كلها عوامل تُقَوِّض من السجل الإيحائي لهذا البورتريه ومن تم القيمة الفنية لغلاف الكتاب ككل؟
إن الأشياء التي غابت عن ذهن المصمم، أو ربما سقطت سهوا أثناء مراحل إنجازه لتصميم غلاف الكتاب، هو أن عين المشاهد وهي تتلقى المضامين والأشكال البصرية، التي يحتويها الغلاف بطريقة تصريحية أو مضمرة، تتجاوب مع ما تشاهده وتستجيب له وفق ما راكمته ذاكرتها وتجربتها من خبرة بصرية. فالعين، كمجمل الحواس، تمتلك وتتمتع بما يكفي من المعرفة والدربة والتجربة التي تؤهلها للقيام بالتفصيل والتقطيع والتجزيئ والانتقاء لكل ما تشاهده. وأنه بناء على هذه السيرورة التفاعلية، تقوم بتمثيل الأشياء في ذهن المشاهد كما تساعده على التعرف، بشكل تدريجي، على عناصرها وأحجامها وإحاطاتها وألوانها. ومن خلال هذه التجربة البصرية أيضا، يتمكن المشاهد من تحقيق الألفة والتجاوب والمتعة والانشراح مع ما يراه ويدركه من صور ورسوم ومنحوتات ومشاهد أو يحصل عكس ذلك، فتقع الخيبة والنفور. بعبارة أخرى، إن الرهان على الخطاب البصري في الإبلاغ والتواصل وتحقيق المتعة والاستمتاع وإثارة الحواس في مثل هذه المناسبات، أي إنتاج بورتريه عن زعيم سياسي بمفردات بصرية، لا يقل قيمة عن نظيره اللغوي. وذلك ما لم يتحقق في حالة هذا الغلاف، لأن العين بمجرد ما تحاول النظر بتمعن في تدرجات اللون الأزرق، أي الأزرق البروسي Bleu prusse والأزرق الطاووسي Bleu paon، الذي يكسو الغلاف ويهيمن على مساحته حتى تشعر بالقنوط والانقباض. قد نتفهم رغبة المصمم وقصديته في احترام وإعادة إنتاج أحد اللونين الموجودين بقائمة الألوان التي يعتمدها مُمَيَّز «مركز محمد بنسعيد آيت إيدر للأبحاث والدراسات» والذي بالمناسبة يعيد توليد بشكل مكثف الأفكار نفسها التي تحيل عليها معاني البورتريه. لكن طريقة توزيع اللون هنا وطلائه على شكل خط قطري En diagonale لا يمكن أن يُنْتَج عنه سوى الاحساس بالتناظر الذي يولد بدوره الرتابة والسكون في النفس. ألم يشكل اللون في ثقافات متعددة أولى اللغات التي نخاطب بها النفوس والأحاسيس والوجدان ؟ إن عين المشاهد حين تتلقى هذا اللون، تصطدم به ثم تتلطخ به بعد ذلك تطمس كل النقاط والخطوط والحركات والأشكال والأحجام والكتل التي يحبل بها الغلاف كما تتوارى أمامه باقي الألوان. إن تعبيرات الأمل والتغيير والانتماء والتعاقد والحلم بما هو أفضل، وهي الفكرة نفسها التي يحاول التعبير عنها بورتريه الزعيم هنا وأيضا مضامين الكتاب، التي عودتنا عليها المعاني الثقافية والدلالات الرمزية لبعض تدرجات اللون الأزرق تنهار وتتلاشى أمام صلابة هذين اللونين.
وانطلاقا من هذه الهفوات في اختيار الأشكال والألوان والخطوط وهاته التذبذبات في انتقاء المحتويات والمعاني والدلالات، يمكن القول إن غلاف كتاب «هكذا تكلم محمد بنسعيد…» فقد الكثير من سلطته على الافتتان ومن تم ضيع فرصة الإغراء المطلوبة في مثل هذه المناسبات. لقد نسي المصمم بأن الدور الأساس للغلاف، علاوة على التلفيف والتزيين والإيضاح، هو القيام بدور الواجهة التي تقدم محتويات الكتاب والتعريف به، أي واجهة للإبلاغ والتواصل بامتياز. إن الترسانة البصرية التي استعان بها المصمم في إخراج هذا الغلاف، طمست مختلف الإيحاءات والاستعارات والدلالات الذي يزخر بها بورتريه آيت إيدر موضوع الكتاب. لقد تحولت وظيفة الفوتوغرافيا هنا إلى لعب دور التشخيص الحسي والإيضاحي لكلمة تَكَلَّمَ ولمعانيها. وكأن دور الغلاف هو تحقيق التطابق بين ما تستثيره الكلمات وما تمثله الصور وضمنها الصور الفوتوغرافية من عوالم وأكوان ثقافية. وتلك مشكلة تعيدنا ثانية إلى إثارة سؤال العلاقة بين المرئي والمكتوب وتمثيلاتها وقبل ذلك تمثلاتها عند نخبتنا.
- الفيروزأبادي. (1983). القاموس المحيط؛ المجلد الرابع، منشورات دار الفكر، بيروت، مصر.